لا لقهوة آخر الليل ....
بقلم الأديبة فاديا حسون
ذات زمان .. وحين كنت أقدم فنجان القهوة لجدتي بعد أذان المغرب ..كانت تمتنع عن أخذه وهي تقول : إن شربه يؤرقني ويبعد النوم عن أجفاني ..
وكنت أضحك في سري وأسخر من الفكرة وكنا نمازحها بشقاوة ونقول لها : اشربي ... وما يضيرك أن تساهري جدي هذه الليلة ...؟ مرت الأيام وكبرنا معها .. وأصبح فنجان القهوة الليلي يوقظ كل خلايا جسمي ... وعند تمنعي عن شرب القهوة أشعر أن روح جدتي تحوم فوق رأسي وترمقني بنظرة اقتصاص .. وأخشى النظر إلى وجه ابنتي وهي تقدم لي الفنجان تحاشيا لرؤية تعابير وجهي منذ أكثر من ثلاثين عاما وقد ارتسمت على وجهها على سبيل أن التاريخ يعيد نفسه ... لا أدري لماذا خطرت لي هذه المقارنة الآن .. ربما لأنني أصبحت جدة .. فبت أتخيل النظارة المقربة تلوح في أفق الكهولة ..موثوقة بقطعة مطاط بعد أن فقدت ساعدي التثبيت خلف الأذنين .. وأتخيل عكاز جدتي يقترب مني ليبرم معي عقد اصطحاب مدى الحياة .. وأتخيل أحفادي يخفضون أصواتهم في حضرة غشاء الطبل المترهل حتى لا أستمع إلى نقاشاتهم التي لا يتقبلها عقل الجدات بسبب صراع الأجيال ..وأنا أرمقهم بحنق من فوق عدسات النظارة ... الآن عرفت ياجدتي سبب أرقك وتمنّع النوم عن زيارة أجفانك ..
البارحة .. وبعد شرب فنجان القهوة بعد العاشرة ليلا شعرت بأن هناك رحى تقوم بطحن الأفكار المتكاثرة في رأسي .. وبدأ شتات الأفكار يتطاير نزقا من بين شقيها الصخريين .. وأنا أنهمك بلملمة البقايا لأصنع منها فكرة واحدة تدنيني من عتبة النوم المجهولة ... فتنهشني كتل الظلام المتطايرة في فضاء غرفتي .. فوق كل كتلة منها تتسيد ذكرى ... وكل ذكرى تحمل الكثير من الألم .. هكذا إلى أن رفع المؤذن صوته لأذان الفجر ..
فهل يعقل أننا هرمنا ...؟
فادية حسون..