أجتنب الإبحار فيها ، وأتلاشى دعوتها في اصطحابي للتناوب معها لفتح بعض الصور القديمة، والتحديق الطويل..في أركانها، فهي تجعلني من فرط اليقظة أمامها لا أقاومها ،وفي النهاية أستجيب لا شعوريًا، بل وأنساق وراءها أينما تأخذني..فلا تراجع ولا استسلام من ملازمتها..وكل مرة أقسم بالصمود، وأغالب استدعاءها بالنسيان او بالتناسي عنوةً لكن..في النهاية أجدني أمام "ذاكرة ذات ملكة مستبدة".
لا شك أننا جميعًا نمتلك نفس الذاكرة ،وبرغم صغر حجمها في تلك الرأس ..إلا أنها مكتظة لا تخلو من ساكنيها أبدًا،هم أولئك الذين مروا على شريط حياتنا منهم من أحسنَّ استقبالهم بكرم أخلاقهم، وحضورهم الفواحُ كأثر أفعالهم معنا..فلا نحتاج لجهد كبير وقت استدعائهم اياها، ومنهم من نجتهد بالفعل في نسيانهم ..فلا حيلة من احياء ذكراهم مع تلك الذاكرة التي لا ترى،لا تسمع، ولا تتكلم أيضًا!!
صعبٌ هو تفسير مدارها. .فإذا دٌعيت تمطر عليك من غياهب ذكرى الماضي الذي لايؤوب ،ومن كل دانٍ قريب تتخطى ، والأصعب.من ذاك وتلك... هو عدم قدرتك على التحكم فيها وما تجلبه إليك عن قرب ،أو بعد من بواعثها..قائمة طويلة من الإستدعاءات تنفرط كما العقد واحدًا تلو الآخر..شريط ذكريات لا يتوقف .
لم أخطئ حين تخيلتها ك "صندوق الدنيا " نعم هي كذلك !!
فأنت من تضع رأسك تحت الستارة السوداء..التي تُخفي ذاك
الصندوق خلفها ،وبكامل ارادتك..أنت من يريد أن يتطلع على مخزون ذاك الصندوق..كي يشاهد شريط الصور الزاخر بحكايات قديمة،كل صورة منهم تحمل في طياتها أجمل الحكايات لتهذيب النفس ، وكلما زاد صاحب الصندوق في لف الشريط من الخارج ..مرت امامك كل الأحداث، والصور بضوء خافت..من الداخل، وفي نهاية الحكاية تخرج بعبرة، توقظ فيك ما لا توقظه أجراس الكون !!
بيد أن لو أُعيدت ألف مرة ،لن تكف عن مشاهدتها..وتود لو أنه هو الأخر ينساه الزمان حتى لا يكف عن لف ذاك الشريط !!.
ومن رحمة الله بنا ،أن انعم علينا بتلك الذاكرة..فكيف كان حالنا
لو تجمدت كل تلك الذكريات في قالب النسيان؟! ولم نستطع احياؤها،أو استرجاعها..
فنحن دائمًا في امس الحاجة إليها ،رغم اعترافنا بأن ما نستقبله منها ما هو إلا ضباب في سماء الذكرى ،ونحسبه من هول تجسده أمامنا أنه قابع تحت سماء الواقع ،فنستقبله بكل شغف، بل ونُهيء له مناخًا ربيعيًا بداخلنا، لذا هي ذاكرة فاطنة ،حاذقة، تدرك جيدًا فن اللعبة معنا واهمية استدعاءها في الوقت المناسب.!! مهولة لم تلبث طرفة عين ..في استرجاع أحداث مضى عليها خمسون سنة
أو أكثر..وأقل ما يجب أن تتذكره منذ خمس دقائق مثلًا أو أقل يكاد أن يُنسى!!
فهناك أشياء رأيتها وأنا لم أتجاوز الخامسة من عمري، ومواقف حية أتذكرها بكل تفصيلة فيها..من الممكن أن تتطاير بعض
الكلمات بمضي الوقت..لكن لن أنسى ، تأثير الحدث على نفسي..
قرات في بعض المقالات عن كيفية تنشيط الذاكرة من آن لأخر..بتمرينها على مداومة قراءة الكتب،أو حفظ معلومات بشكل
دائم..فما رأيت غير حفظ ورد قرآن يوميًا هو خير وسيلة للحفاظ عليها.
يقول عباس محمود العقاد:"ولمن أراد من علماء "السيكولوجيا والبداجوجية "أن ينعت هذه المحاباة بما يحلو له من اوصاف الاستبداد ولكنني -بعد ستين سنة - استغفر لهم ذنوبهم إلى الذاكرة وأقول إنها ملكة مظلومة على الغاية من العدل والديموقراطية، إن كانت محاباتها كلها على مثال هذه المحاباة.
فإنها تجري على قانون عادل فيما تعمل، ولكننا نجهل أسباب هذا
العدل حتى نبحث عنها بين زوايا الظروف والملابسات. "
#من_وحي_يوميات_٣
#الذاكرة_ملكة_مستبدة !
#عباس_محمود_العقاد
#شيماء_عبد_المقصود