مرآة بلا انعكاس
كانت السماء كلوحة رمادية شاحبة، والريح تعزف لحنًا يشبه أنينًا قادمًا من عمق الزمن. جلست هي على مقعد خشبي في حديقة مهجورة، بين أشجار بلا أوراق، كأن الخريف قد نزع عنها أرواحها. وقف هو أمامها، كظل يقف بين النور والظلام، كأن حضوره سؤال بلا إجابة.
قالت عيناها ، وصوت قلبها يرتجف كأوراق شجر في مهب الريح:
- قاتل الله حيرتي فيك. كلما ظننت أنني أمسكت بحقيقتك، أفلتت مني كسراب في صحراء. أأصدق إحساسي الذي يصرخ أنك صادق؟ أم أصدقهم حين يحذرونني منك كذئب يرتدي ثوب الحمل؟
نظر إليها بعينين تائهتين كأفق ضائع، ثم قالت عيناه:
- كيف يمكن لمرآة أن تعكس صورتها حين تكون هي نفسها مكسورة؟ أنتِ تبحثين عن الإجابات في ظلي، لكن ظلي ليس أكثر من انعكاس لشمس ظنونك.
حدقت فيه بدهشة، وكأن كلماته صفعة أيقظتها من سباتها. صرخت عيناها:
- أتتهمني بأنني السبب؟ أليس من حقي أن أشك حين تتنازعني أقوالهم وأقوالك؟ يقولون إنك تخطط لإيذائي، أن كلماتك المعسولة ليست إلا خيوطًا لنسج شباكك.
اقترب منها، والخطوات بينهما ثقيلة كأنها تحمل أوزان العالم ، قالت عيناه :
- إذا كانت أقوالهم تُثقل قلبك، فلِمَ لا تنظرين إلى أفعالي؟ الكلمات ريش يتطاير مع الريح، أما الأفعال فهي النقوش التي تبقى على صخور الزمن.
أشاحت بوجهها عنه، وهي تضم يديها كأنها تحمي قلبها من الانكسار. همست عيناها :
- لكن أفعالك غامضة ككلماتك. أنا أرى فيك الخير، وأسمع منهم الشر. أأصدق إحساسي بك، أم أصدقهم؟
جلس على الأرض أمامها، وكأنه أراد أن يتواضع أمام ألمها. اغرورقت عيناه بالدموع ، باحت عيناه لها بسره :
- إحساسكِ هو البوصلة، لكنه يحتاج إلى خريطة. والخرائط تُرسم من تجاربنا، من اختباراتنا، لا من أقوال الناس. اجعليني مرآتكِ، لكن انظري إليّ كما أنا، لا كما يرسمونني لكِ.
رفعت عينيها إليه، وفيهما عاصفة من الشك والرجاء. ثم قالت عيناها :
- لكنني خائفة. ماذا لو كنتُ أخدع نفسي؟ ماذا لو كان إحساسي سذاجة تجرني إلى الهاوية؟
ابتسمت عيناه ، لكنها كانت ابتسامة حزينة، كأنها غروب يودع يومًا لن يعود. ثم قالت:
- الخوف دليل أنكِ تبحثين عن الحقيقة. لكن تذكري، الحقيقة ليست دائمًا سهلة ولا خالية من الألم. إذا كنتِ تريدين أن تكتشفي، عليكِ أن تخاطري. الثقة بذرة، إن لم تُزرع في أرض الشك لن تنبت.
صمتت عيناها للحظة، ثم قالت :
- إذن سأختبر إحساسي وأفعالهم معًا. سأزن أقوالك أمام أفعالهم. لكن احذر، إن كانت الحقيقة مرة، فإنني لن أسامح كذبك.
وقف ونظر إليها بنظرة طويلة، كأنه أراد أن ينقل لها شيئًا لا تُترجمه الكلمات. قالت عيناه:
- وإن كانت الحقيقة مرة، هل ستسامحين خوفك الذي زرع هذا الشك؟
ثم استدار وغادر، تاركًا خلفه ريحًا تحمل أسئلتها إلى أفق بعيد. وظلت هي وحيدة، تنظر إلى المرآة التي لم تعد تعكس شيئًا، تبحث عن نفسها قبل أن تبحث عن إجابته.
فى تلك اللحظة انساب صوت أم كلثوم يخترق أعماقها عبر الضجيج : أكاد أشك فى نفسي لأني أكاد أشك فيك وأنت مني .
د/ نجوى محمد سلام
( الفراشة الحالمة )
كتبت مساء الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤
وحي الفكرة قصيدة
ثورة الشك
الرائعة أم كلثوم