حفيدات زنوبيا
بقلم الشاعر عبده داود
قصة قصيرة،
23.8.2020
ياسمين تخرجت من كلية السياسة والاقتصاد في جامعة دمشق بتفوق.
عرض عليها عميد الكلية أن تعمل في الكلية أستاذة مساعدة، حالياً، ربما ترسلها الجامعة في بعثة دراسية كي تحصل على شهادة الدكتوراه في السياسة والاقتصاد بإحدى الجامعات المعروفة.
عندما كانوا يسألونها لماذا السياسة يا ياسمين، أليست هذه مهنة الرجال؟
كانت تضحك، وتقول عندما اساء الرجال توظيف السياسة وصاروا موظفين عند الشيطان، كان لا بد للمرأة من أن تتدخل حتى تساعد بتصليح مسار الاعوجاج الحاصل...
دولة اوروبية منحت وزارة التعليم العالي في سورية مقاعد دراسية للتخصص بمجال السياسة الدولية.
وقع الاختيار على ياسمين، وسافرت للحصول على لقب دكتوره...لتعود أستاذة في الجامعات السورية...
أعجبت ياسمين بالمناهج السياسة النظرية، التي تهدف لتأمين حقوق الانسان، وضمان حريات الفرد، وتلبية احتياجاته الكاملة، وتحقيق العدالة، ومحاربة الفساد والعنصرية والطائفية والمذهبية، وغيرها...
دراسات اسعدت ياسمين وأبهجتها وقالت هذه هي السياسة الحقة التي تسعى لتأمين الحياة الفاضلة للمجتمع، والتعايش بسلام مع الشعوب...
بدأت ياسمين دراستها تحت عنوان توظيف السياسة في خدمة المجتمعات...
خصصت لها الجامعة استاذاً يشرف على دراستها ويوجهها يدعى الدكتور لورانس، شاب خلوق، وسيم، وأعزب.
قال لها الأستاذ لورانس: من أهم وظائف السياسة: زيادة الموارد الإنتاجية كافة، لترفد كافة الخدمات المجتمعية مثل التعليم، والصحة، والمواصلات، والزراعة، والطاقة، وكل ما يحتاجه البلد...وبالتالي السياسة وظائفها مقدسة، غايتها الانسان، والتعايش مع الآخرين بسلام...
تعمقت ياسمين بالمقارنات بين النظرية المكتوبة والواقع الجاري في الميدان...
وجدت الحال مريب القادة السياسيون أغلبهم موظفون عند قادة أكبر منهم...والأكبر منهم موظفون عن آخرين أكبر، وأكبر...بالتالي رأس الهرم ترأسه عائلة واحدة يرأسها امبراطور واحد يسعى الى سيطرته على الكرة الأرضية كلها...
كانت السنوات الدراسية تمضي، وياسمين تعاين الكذبة الكبيرة...وهي تشاهد التناقض الكبير بين النظريات المدونة ، وبين الواقع الجاري...
الأستاذ لورانس أعجب بذكاء ياسمين، نظراته الحنونة كانت تقول الحاناً صامتة تشبه موسيقى الحب...وياسمين أحبت لورانس بصمت ايضاً...
كانت ياسمين تشعر بعاطفة هذا الأستاذ الذي اعجبت به، أحست بألمه، لكنها كانت تتجاهل عواطفه لأنها لا تريد الارتباط مع أحد قبل انهاء دراستها، والعودة الى بلدها...
الأستاذ لورانس كان يدرك الاستغراب الذي يدور في خلد طالبته، المقارنة بين الكتب السياسة النظرية، وبين الذين يديرون السياسة.
لكن لورانس كان مجبراً أن يطلب منها كتابة فقرات معينة في اطروحتها تطلب الجامعة تدريسها هو ذاته غير مقتنع فيها.
كان يقول لها، أنت مجبرة على قول الذي هم يريدونه، حتى تحصلين على شهادة الدكتوراه، وتتناسين الواقع الجاري...
ويقول أيضاً: أنا لا أقدر أن أقول كل ما يدور بخلدي، لأنني سأخسر وظيفتي...وربما يسجنونني في سجن لا أخرج منه...
كانت الأيام تمر وياسمين تكتب، وتقارن، وتشتد حيرتها، وقد تعرفت على أصدقاء رائعين، في الجامعة، وخارج الجامعة... وكانت تستغرب لماذا اصدقاؤها لا يحبون الخوض في العالم السياسي...لكنها فهمت لاحقاَ، بأن السياسيون القادة هم دمى مربوطة بحبال كالمستخدمة بمسرح العرائس... يحرك تلك الدمى شياطين كبار من خلف الكواليس...
بعض السياسيين يعجبك ظاهرهم... ولكنهم بباطنهم يلبسون أثواباً سوداء، كونهم خاضعون لإملاءات تجعلهم ذئاب متوحشة عطشى للدماء، وغزو الشعوب، والسيطرة على موارد الدول الضعيفة ونهبها...
مرت السنوات وانهت ياسمين أطروحة تخرجها بمساعدة استاذها لورانس...
حددت اللجنة الفاحصة موعداً لمناقشة مشروع تخرجها... ياسمين دعت اصدقائها من الجامعة ومن خارج الجامعة لحضور مناقشة أطروحة التخرج...
وقفت ياسمين خلف المنصة الخاصة، مقابل اللجنة الفاحصة، مرتدية اللباس الرسمي، حسب البروتكولات الجامعية المتبعة...
تكلم رئيس اللجنة بتعالي وقال: اطروحتك مستوفية للشروط المطلوبة من حيث الشكل، فلنبدأ مناقشة المضمون...
قالت ياسمين: بداية اسمحوا لي القول: هذه اطروحتي التي تزيد عن خمسمائة صفحة كتبتها يوما بعد يوم. وحرفاً بعد حرف، كتبتها بفرحي، وكتبتها بمداد دموعي...
أرجوكم دعوني أرتجل اطروحتي بشفافية كما عاينتها بأغلب الدول الغنية، حسب الواقع الحقيقي...
عندما رغبة دراسة هذا الاختصاص، لقناعتي بأن السياسة خلقت لتكون القانون الذي يحمي الانسان... ويحقق العدالة لبني البشر جميعاً...في هذا السياق اطروحتي هذه مجرد كذبة كبيرة، مجرد كلمات مزيفة، وبالتالي هي مجرد أوراق تليق بها حاوية القمامة...او تلقى في موقد التدفئة في ليلة باردة...
في الواقع سياستكم، بعيدة عن الحق، وبعيدة عن العدالة، سياستكم الفعلية وظفتموها لغزو ونهب الشعوب الضعيفة المسالمة. أغلب قادتكم اليوم، كانوا زعماء مافيات منظمة، عصابات قتل، عصابات تبيض أموال، عصابات متاجرة بالمخدرات والممنوعات. وأنتم أغلبكم موظفون عندهم تخططون لنهب العالم، موظفون عند المنادين بالعولمة، الذين هم صناع أسلحة كسر العظم، لتحقيق مآربهم الدنيئة، اخضاع العالم تحت سيطرتهم، وبالتالي يتفردون في حكم الكرة الأرضية...
وقفت اللجنة مسعورة، مستهجنة، مستنكرة، هذا الكلام...صاح رئيس اللجنة: اخرجوا هذه المجنونة من القاعة...
علا التصفيق في المدرج: (برافو) ياسمين (برافو) أنت تقولين الحقيقة، دعوها تنهي كلامها، حرية الكلمة يجب أن تحترم وتقال، وخاصة هنا بالحرم الجامعي...
قالت ياسمين ماذا تصنع دولكم ببلادنا، ارسلتم لنا الإرهاب يذبحون شعبنا كما تذبح النعاج، ويهدمون دور عباداتنا ودورنا، يشردون أهلنا، يسرقون آثارنا وحضارتنا، ويغلقون مدارسنا...ويسرقون خيرات بلادنا...
وأنتم فتحتم أبوابكم المحصنة، حتى تستقبلوا أبناء بلدي المشردين... مدعين خدمة الإنسانية كذباً ودجلاً...
يا سادة أنتم جزء من المؤامرة الكبيرة على بلادنا، غايتكم تهجير شعبنا خارج وطنهم، واحضار المرتزقة بدلاً عنهم لينهبوا ما تبقى عندنا...وكذلك سيفعلون بالوطن العربي...بل بكل دول العالم المسالمة والفقيرة التي لا تسمحون لها بالتسلح...
سورية تحارب الإرهاب في حرب استنزاف حقيرة، فرضتموها أنتم علينا، وعندما يقتل واحد من المرتزقة، تستحضرون عشرة بديلاً عنه... بينما إذا استشهد واحد منا، يموت جزء من جسدنا لا يعوض بمال الدنيا...
والغريب انكم تتبجحون بوسائل اعلامكم بانكم تحاربون الإرهاب بينما أنتم الإرهاب بعينه...
أنتم تسرقوننا وتدعون انكم زعماء حفظ حقوق الانسان...
أنتم مجرد دمى اختاروكم لتكونوا أساتذة جامعات تعلمون طلابكم ما يفرضونه عليكم من خلف الكواليس؟
جن جنون رئيس اللجنة، وطلب رجال الأمن وهو يصرخ اخرجوها...
وقف الجميع يصفقون ويهتفون عاشت الحرية...عاش الفكر الحر...عاشت الدكتورة ياسمين...
جاء رجال الأمن وحاولوا أن يمسكوا بها، لكن أصدقاؤها منعوا الشرطة بالتقدم قالوا هذا حرم جامعي لا يحق لكم الدخول اليه.
قال رئيس اللجنة: هذه المجنونة لا تستحق، أنت مطرودة واطروحتك مرفوضة...
صار هياج في المدرج، الجميع يصرخون ياسمين تقول الحقيقة... هذه الطالبة تستحق النجاح... وقف جميع الموجودين يصيحون ياسمين تستحق، ياسمين تستحق...وهم يصفقون ويقولون ...عاشت الدكتورة ياسمين...عاشت الحرية...
قالت ياسمين موجهة كلامها للجنة، أنتم ترفضون مطالعتي، وأنا أرفض أن انال شهادة الدكتوراه من ناس يخدعون ذاتهم، ويخدعون طلابهم، ويخدعون مجتمعهم، ويخدعون اعلامهم، وكل شيء في حياتكم هو كذب وخداع...
وتحت التصفيق الحاد من الجميع.
نهض الأستاذ لورانس ووقف اثنان من اللجنة معه، وصاروا يصفقون ويقولون ياسمين على حق...ياسمين تستحق شهادة الدكتوراه... ونحن أعضاء من اللجنة نوافق على منحها لقب دكتوره في السياسة الدولية...
هذا الموقف الشجاع غير المسبوق، أجبر مدير اللجنة على منح ياسمين لقب دكتوره...
رجعت الدكتورة ياسمين الى سورية لتعطي دروساً بالجامعة ساعية الى غرس الفكر السياسي الصالح في عقول طلابها...
وكانت في غاية السعادة، لكن قلبها كان حزيناً لأنها لم تبح بحبها لمن عشقه قلبها في الغربة...
بعد سنة تقريباَ تفاجأت ياسمين بدخول عميد الكلية الى مدرج الجامعة، يرافقه الدكتور الأستاذ لورانس...قدم عميد الكلية الدكتور الضيف. الذي تكلم وقال: لا خوف على سورية، طالما هناك اشخاص مثل هذه الانسانة العظيمة الدكتورة ياسمين...
وقال ايضاً، هي رفضت أن تسكن ببلدي، لذلك جئت أنا لأسكن معها في بلدها، سورية بلد الياسمين والمحبة والسلام.
ياسمين علمتني بأن الانسان شجرة مواقف نضالية، وياسمين من حفيدات زنوبيا، وموقفها المشرف كان بحجم سورية العظيمة...
بقلم: عبده داود
سورية