عالم بلا قلب
بقلم الشاعر ربيع دهام
وبعد أن تهدأ زماميرُ الصيحاتِ، وعجقة الطرقاتِ،
والمشاعر والحروف المبتلّة بخَروَعِ الشتائم وزمزم القبلاتِ.
وبعد أن يلوك الظلامُ الأفقَ الكبير، وتركض الناس إلى بيوتها متعبةً بعد نهار عملٍ طويل.
وبعد أن يسلحب كبار اللصوص إلى أوكار قصورهم، حالمين أن ينبت من خصبِ يديهم عشرون إصبع إضافياً،
ليعدّوا أرقاماً مضاعفة من مالٍ حرامٍ كدّسوه.
وبعد أن تنكح الآذان ما طاب لها من عشبَ النمائم والأكاذيب، مثنى وثلاث ورباع، كي ترش عليها ما تيسّر من ملحها وبهاراتها، ثم تطرحها في أسواق البيعِ في نهار اليوم التالي.
وبعد أن تبدّل الشمس ثيابها، وتسلّم للقمر مشعلها، وتنصرف هي لسرير البحرِ كي تغفو على وسادةِ اليمِّ قليلاً وترتاح،
وينوب القمر عنها معتزاً في ذاته ومبتسماً.
مدركٌ أنه سيستمع قريباً، ومثل كل ليلة، لآلاف أبيات المديح والغزل المقدّمة إليه على طبقٍ من راحة.
وستُتلى له القصائد. وسيتغنى به مئات المطربين.
كسيرة أيٍ من الإنتهازيين.
والشمسُ تزحف لبيتها، لتنام وحيدةً كالمساكين.
ليس لها إلا ظلام البحر الدامس والأسماك والنوارس، وللقمر من "اللايكات" ما يفوق الملايين.
أجلس أنا في غرفتي. في قبوي. في إصطبلي.
أقرفص على الرخام، مع كتبي وأوراقي.
مع نفسي التي تأبى أن تفارقني. كأنها تخشى عليّ من وحدةِ المكان والزمان.
كأنها تعرف أنها أوفى لي من ابن حواء أو وآدم، وما تسمّيه معاجم اللغةِ : "إنسان".
إذا ما توجّهتُ إلى الصالون النائم تلحقني.
وإذا ما خرجتُ إلى البلكونِ الحالمِ تسبقني.
ألتفت يساراً، أراها قد صارت ملقط غسيلٍ يعلقّني على حبل الذات ليجلدني.
أهرب من أفكاري وأغلق باب الشرفةِ ورائي.
تجدُ لها ممراً من كوّةٍ صغيرةٍ تآمر على نسجِها الملحُ الحارقُ والهواء المارق، فتغور فيها وتلحقني.
أستسلم لعنادها. أبتسم. أتوقّف. أمسكها عن يدها وأهمس:
"هيا إلى جلسة الإستجواب اليومية إذن ".
يسامرني قلبي. أعترض. أزيحه جانباً وأصرخ :
" تباً لك أنتَ. أنهكْتَنيَ! تباً لخيرِك ...لمحبتك لإخلاصك وغبائك!".
أغلق إذني وأتقدم. مثل عادته، يبتسم ويتبعني.
أُدخِل يدي في فمي. أحشرها في صدري. أقبض على القلبِ، ومن بين الأحشاء والشرايين أنتزعه.
أرفع قبضتي وأقذفه بعيداً.
لكنه كالكلبِ الوفيِّ يرجع إليَّ.أركله.
يطير في الهواء إلى حيث لا أكترث.
وأُبقيه يغري ويزبد ويبكي ويعوي خارج الغرفةِ.
أنصرف وأغلق عليه الباب.
أتوجه إلى مكاني المعتاد وأتسمّر هناك بين قضبانِ الحسابِ.
يعلنُ شاكوش العدالة عن نفسه بطرقاته المعتادة.
أسكتُ أنا. أصمتُ. تراه ماذا يقول اليوم؟
" ظلمتَ إنساناً" ؟
" خُنتَ مبادئاً"؟
" جرحتَ بلسانك أحداً، ووقف عنادك كحاجز حدودٍ بين قلبك واعتذارك؟".
"سرقتَ؟ قتلتَ؟ خذلتَ قلباً بصدقٍ أحبكَ؟".
" خُنتَ عِشرة طيِّبة"؟
" نكرتَ الصداقة والأيام الجميلة؟"
"اشترى ضميرَكَ سلطانُ؟"
" قلّم أظافر قلمِك مالٌ، أرهب مداد حبرِه زعرانُ؟".
هيأتُ نفسي لكلماته. لعباراته. لجمله المقتضبة القوية.
لشهود كذبٍ قد يتوافدون ليميطوا اللثام بـ "الدليل القاطع" عن "جرائمي".
ولما جاءَ وقتُ الحُكم والحساب، تهيأ عقلي وتحضّر.
أيكون شاكوش العدل مثل مطارق المحاكم الدولية والأميركية؟
أيرتكب بيديه، أو بأدوات يديه، الجرائم، ثم يحضّر شهود الزور، ويجترح عدالةً ليس فيها من العدل إلا حروف العين والدال واللام، ليتهمني؟
أيكون حكمه مثل أحكام الإنسان، تتبدّل بحسب الظروف والأيام؟
أخيراً وقفتْ نفسي منتصبةً. معتمرة قبعة المحاكم البيضاء المعتادة.
تحضّرت لتلاوة البيان.
الصمتُ القاتلُ يعم المكان.
ترى بأي تهمةٍ سأكون مُدان؟
وبعد أن عزف الصمتُ نغمتَه ، وضرب شاكوش العدل على الطاولة،
صاحت العدالة :
"مُدانٌ أنت بحرقِ إبريق الشاي!".
"إبريق الشاي؟"، أسأل نفسي.
أشمُّ رائحة حريقٍ.
أركض مسرعاً إلى المطبخ. تلحقني هي وبيدها الشاكوش.
أطفىء النارَ تحت الإبريق معتذراً، وأروح ألاطف الإبريق الحديدي ، أرجوه المغفرة والسماح.
يصيح قلبي المطروح أرضاً : لقد دهستَني، لقد جرحتني. لقد خذلتني. وخائفٌ الآن على حديد إبريق؟"
أستلّ الشاكوش من عدالة النفسِ وأضربه. أفجّم كل مشاعره.
ينزف الدم من حجراته الأربعة. ينوح.
لا أكترث له. وكيف أكترث وأنا صرتُ بلا قلبٍ؟
أتركته يولول مثل الندابين كيفما يشاء. أفشخُ فوقه وأرحل.
لا أذكر ما حصل بعدها.
بل كل ما أذكر ه أنني نمتُ بلا قلبٍ ذاك المساءْ.
ونمتُ كثيراً. ونمتُ أخيراً.
وفي صباح اليوم التالي، ولما استفقت من سباتي،
وترجلتُ نشيطاً نحو مرآتي،
وزحتُ بأصابعي عنها البخارَ،
وتسمرت أمامها بكل كبرياءْ،
من دونِ ألمِ مشاعرَ . من دون عناءْ،
نظرتُ إلى نفسي فيها ،
فرمقتني من الجهة المفابلة... مومياءْ.
(عالمُ بلا قلب/ربيع دهام)