.
غدا سيكون أجمل.
**** نفث دخان سيجارته في فضاء الغرفة ، ثم راح يتتبعه بعينين أذبلهما السهاد فهو لم يذق طعم النوم منذ زمن بعيد،ولم يعد يهتم ،فترك الأيام تجري في جسده تغير من معالمه بعشوائية كعشوائية حياته .والقلق كالريح تهزه وتقلبه يمينا وشمالا .وسماؤه مثقلة بالضباب ، وظله المتوحد اختطفته الشمس وأخذته معها في غيابها الأخير، ولم يبق إلا الصدى يتسكع في أعماقه حاملا أناة وآهات ينثرها وخزات هنا وهناك .
غادر الغرفة يحمل قلبه الكسيح، متجها إلى مقهاه الأثيرة ،عله يجد ما يسري عنه ... سار يخترق الضباب الذي غزا المدينة منذ أيام فاستطاب المقام بعد أن طرد الشمس ، ونفى القمر، فوقف هو خارج مدى الاستيعاب ،يقتحم الفضاءات كأعمى لا يرى إلا الظلمة . أشعل سيجارته العشرين ، ثم نظر يمينا وشمالا فلم ير إلا كتل الضباب تجثم على روحه . فكر في التمرد لكنه تذكر بأن جسده لن يتحمل مزيدا من المعاناة ، بعد أن استنفذ جل قوته في المعتقل ، عندما كان مناضلا صلبا لا يلين ، يردد الشعارات وهو يجلد معلقا كدبيحة، ابتسم - ساخرا من نفسه - وهو يعترف بغبائه وغباء تلك الشعارات ، وذكاء من لقنوها له وجعلوا منه سلما للوصول إلى السلطة . تجهم وجهه من جديد وهو يتذكر فرار زوجته مع مناضل من الفئة الممتازة ، وفقدانه لعمله ، وتنكر الأهل والأصدقاء له ، فأجهش بالبكاء.
وصل إلى المقهى وقف بباها محاولا أن يتخلص من هواجسه ، ثم انتبذ منها مكانا قصيا ، يبعده عن نظرات الفضول أو التشفي ، أو السخرية . حيث يخلو إلى نفسه لمحاولة الصلح معها آنا ، ولجلدها آنا آخر. وضع النادل - في صمت - أمامه قهوته المرة ثم انصرف دون أن ينظر إليه فهو لايريد أن يرى فيه نفسه ، وذله اليومي .
احتسى قهوته ، جادل نفسه غنى لها ، وبكى ثم جلدها كالعادة.. في طريق عودته رأى المدينة تجمع أطرافها وتنكمش لتنام . وتحلم بيوم جميل ساطع ، بربيع حقيقي أخضر. بعد أن أنهكها سخام الزمن ، وعبث الإنسان ، وأثقل كاهلها وجع التفاهة في أرجائها. حنى رأسه ثم ذاب في الشوارع البارد ة مسرع الخطا ليلتمس شيئا من الدفء في غرفته الكالحة . ومن مكان ما بين الكتل الضبابية انبعث صوت سكير يغني ."" يادنيا ياغرامي "".. فتذكر صديقته الكاتبة وهي تهمس في ليل اليأس والألم : ياصديقي غدا سيكون أفضل. ابتسم ثم أسرع الخطا نحو الصباح .
المصطفى كووار
من مجموعة :عصفور أخضر.