صفة واحدة استوقفتني وأدرت فيها التفكير مرات ومرات قبل الانجراف في أي منحدر أخلاقي تابعًا لها، أو انتظار نتيجة غير مرضية بعد التغاضي عن ردود الأفعال حيالها، ومن المدهش أن من أعانني على التحلي بها، ودعاني لاستقطاب فضيلتها من بين أرباب رذائلها هم نفس أولئك الأشخاص الذين أجبروني عليها، دون أن يفطنوا لمدارك الفضل الذي عمَّ عليّ ونلته بعد اتباعها، وبما يدَّعونه الحق المكتسب في خصوصيتنا، ومن هذا المنطلق رسخت حائلًا يحول بيننا في حدود الأدب الأخلاقي.. وقررت آسفةً أن أمنح تلك الصفة أحقية الضوء الأخضر خاصة لكل من يستحقون التعامل بها.. وبالتأكيد حينها سينال قلبي وعقلي معًا مكانة لا يرتقي إليها إلا كل من أدرك أن حرية الآخر تستحق، بل وتستوجب أن يُضيء لها صاحبها أمام كل العابرين الضوء الأحمر.
وأما عن تلك الصفة التي أخذت حظًا وافرًا من الحديث، ألا وهي
"صفة اللامبالاة"، تحسبها صفة، تحسبها طبْعًا، أو يمكنك أن تقول تقسيمًا حُفر ليُكوّن ملامح أصحابه، فلك ما تقول عنها حسبما شئت، حتى لو رأيت أنها نوع من أنواع النرجسية أو التصوف.
وسيان تعاملت بها رغمًا أو عمدًا مع فروق البشر، أو بعض ممن يستحقون التعامل بها حقًا، فهي في النهاية حصيلة تجارب حقيقية لا يجب أن نجهلها.
خلاصة القول أن لا أحد منا تخلو حياته من تلك الشخصيات المتطفلة، شئنا أم أبينا، فوجودهم في مدار حياتنا أمرٌ واقع يجتاحها دون وجه حق.
عادةً تٌصادفنا بعض الظواهر الموجودة في الطبيعة حولنا معلنة عن نفسها بأن تشكيلها ومضمون تكوينها ظاهريًا وداخليًا يُعبر عن تركيبة معينة لفئة معينة أو شخص بعينه، نحن نتعايش معهم بالفعل على أرض الواقع، كأن أثني مثلًا على طيبة أحدهم وأخلاقه الكريمة فأقول: هو في مجلسه مثل النسمة،
أو أذم فأقول: "فلان كلامه مثل الدبش"، والدبش هو" قطع حجارة "، والأمثلة من هذا القبيل كثيرة.
فَلَكَمْ أرى أن تلك النباتات المائية التي تطفو على سطح ماء الترعة التي تجاورنا "مشروع الصرف المكشوف" تأخذ في شكلها ومضمونها أولئك الذين أجبرونا على تشبيههم بتلك الطفيليات التي تشوه جمال المنظر كما هم يشوهون حياتنا، فكلما سرت بجانبه أشعر باختناق يعتصر أنفاسي، لا خلاص منه إلا إذا مررت بعد يوم أو يومين، أو بعد ذلك بعدة أيام أو يزيد، فلم أجد إلا أنه قد انتشلوا منه و أزالوا البعض القليل، وفي يومه وليلته سرعان ما يرجع، وينتشر بل ويتكاثر..
يحضرُني أحيانًا شعور..لو كان بيدي لانتشلت كل تلك الطفيليات بنفسي انتشالاً غير مأسوفة..لولا أني أعلم تمام العلم أنه لا سبيل للخلاص منها حتى لو اضطررت أن أفعل ذلك مرارًا وتكرارًا، لكني خرجت من تلك المخيلة لسبيلٍ آخر .. غير الذي دخلت به، بل واكتفيت أن هذا هو كونه الجانب الجوهري له، وضرورة الأخذ به، و اعتبارًا لما سيكون بعد هذا التغيير الطارئ، ووصولاً به لمرحلة -عدم الاكتراث- التي تُعد محطة الوصول الأخيرة مع هؤلاء بلا تراجع في فرضها كأسلوب حياة..ولا استسلام أمام معارضي وجوديتها،
لكن يبقى هنا سؤال يفرض نفسه على الموضوع ككل: هل لو اتخذنا هذا الأسلوب منهاجًا للحياة ستتغير تلك الأفكار الباهتة عن مفهوم الحرية الشخصية بالفعل؟!!
أم نستسلم للأمر الواقع..ويبقى الحال كما هو عليه..!!
يقول العقاد ردًا على سؤال أحدهم في رسالة له كان يسأله عن صفة "عدم المبالاة" هل هي المقصود بها أن توجه للحاسدين والحاقدين فقط:
فضرب له العقاد مثالاً بقصة "جحا وابنه والحمار" المشهورة
ركب ومشي الطفل فلامته النساء، وأركب الطفل ومشي هو فلامه الشيوخ، وركبا معًا فلامهما أنصار الرفق بالحيوان، ومشيا معًا وأطلقا الحمار أمامهما، فضحك منهما أبناء البلد، ولم يبق إلا أن يحملا الحمار معًا -كما قال أحد المازحين- فكاد الخلق أن يزفوهما إلى المارستان..!!
ولا نظن أن الولد يخطئ بعد ذلك إذا خرج من التجربة بوصية موجزة خلاصتها التي لا اعتراض عليها:
"هذه عاقبة المبالاة بأقوال الناس"
من_وحي_يوميات_٣
عدم_المبالاة
عباس_محمود_العقاد
شيماء_عبدالمقصود