لا أعلم من أين أبدأ، ولا أدري كيف سيكون سبيلي مع هذا الموضوع بعدما فقدت كل السبل الموصلة إليه؟ تلك التي أصبحت بين عشية وضحاها مأهولة بأحداث ضاربة عن اليمين وعن الشمال، وكلما جمعت بعض من جوانبه.. فإذ بكل الأفكار تتلاطم كما الأمواج، وعند استدعائها تشجب وتنحرف عن مسارها وتسوقني لدوامة تغترف الخوف من قلبي اغترافًا وتنزوي بركنٍ بعيد معرضة عن انطلاقها، وكأن يدي مغلولة مغبة تضارب الأحداث وتصاعدها يومًا بعد يوم ..وتخبط الأصوات التي لا تنقطع ما بين أنينٍ وصراخ واستغاثات ودوي طلقات تنبعث هنا وهناك في كل مكان .. فالتمست لرجفة قلمي العذر وذهبت لقلبي أتوسل إليه ليشد أزري ويدثر رجفة يدي.. وإذ به هو الآخر يعتذر معلنًا عصيانه عن أي شعور أو إحساس ينعكس لطريق غير طريق حزنه المكظوم، وأنا أعلم يقينًا بقلبي أنه لن تستطيع أي قوة على وجه الأرض أن تفرض عليه تفريغ شعور لا يحمله أو تبريره لإحساس غير صادق، لاسيما بعد فقده لمعانٍ كثيرة في تلك الفترة الوجيزة الماضية التي ناب عنها الحزن والألم والأنين والفراق الأخير بغزة الحبيبة.
فلا غبار عليه هو الآخر إن فعل ذلك غاية البقاء على مبدئه..فلن أحمله ما لا يطيق..
وهنا، وما عليَّ الآن هو التقاط نفس عميق أكسر بشهيقه كل الحواجز التي تعترض أرباب القلب العالقة حزنًا وكمدًا..وأتبرأ منها بزفرة طويلة عساها تشفع للجاجة الصدر.. وبوح القلم.
وها أنا ذي أستعد للسؤال الذي لطالما هربت منه..ألا وهو: من أين أبدأ؟!!
حتى وإن اهتديت لأي بداية من كل تلك الأحداث التي عصفت بغزة ..ستظل هناك أسئلة تتفجر من بين الكلمات رغمًا عني تطوق لإجابة غير مخزية.
إلى أين يا غزة ... وإلى متى؟!!
إلى متى يا غزة سنظل ملجمين بلجام طاغٍ يكمم الأفواه، ونشاهد قصف الإنسانية وننظر إليها بعين الحسرة وهي تحتضر أمامنا على أرضك، ونحن مكبلين لا نقدم ولا نؤخر، ونرفع لك الرايات الملطخة بدماء شهداءك الأبرياء؟!!
إلى متى يا غزة وأنت صامدة ثابتة على رباطة جأشك تحت ضغط لا يطاق، ما كنا أبدًا نتوقع أن نرى هذه الأحداث المروعة تجري على أرض الواقع يومًا تحت أي ظروف..كنا نسمعها ونشاهدها فقط في أفلام السينما والأكشن أو المغامرات وغيرها، ونتعامل معها على أن ما نراه ما هو إلا خدعة إخراجية أثناء التصوير حتى لا نتاثر أكثر من اللازم وتنعكس علينا بشكل سلبي..وبعدما أصابك ما أصابك..تأكدنا أنه ما عاد شيء مستحيل..و أن ما يجري على أرضك أصبح أقوى من أي شيء نراه أو نسمعه بعد ذلك..بل و فوق فوق ما نتخيل؟!!
علينا أولًا أن نعترف بالحقيقة المؤسفة أن كل ما فعلناه أو ما نفعله وما سنفعله هو مجرد كلام، واقتراحات، واجتماعات، ومشاورات، وقرارات بلا أدنى فائدة..وبلا جدوى لتنفيذ وتفعيل أي قرار حاسم، فكل ذلك ما هو إلا مجرد حبر على ورق..!!
وليكن ما فعلته الشعوب بحشودهم، بخلاف أجناسهم، وأديانهم، وعقائدهم، وما قاموا به من مظاهرات، وما أبدوه من اعتراضات تجاه القضية الفلسطينية كان له بالغ الأثر في توصيل الرسالة الحية كاملة..فخرًا و فضلاً عن حُكامهم الذين لم يقدروا أن يغيروا من الواقع المؤلم ولو بشق فعل واحد ينم عن تواجدهم الفعلي مع الأشقاء بغزة في أرض المعركة الحقيقية هناك، وإن كنت أخص بالذكر حُكام العرب..فكانت وما زالت وقفتهم الحقيقية ما هي إلا زبدٌ هائم لا يذكر على بحر الدماء الجاري بغزة..وإن كانوا يعتبرون أن تلك المساعدات الإنسانية هي أقصى أمانيهم، تلك التي ظلت عالقة مع وقف التنفيذ بمعبر رفح..حتى أملت عليهم إسرائيل وفرضت شروطها الجبرية لمرور تلك الإمدادات، بل وحذرتهم أيضًا من أن يكون لحماس أو أي تابع لها نصيب من تلك الإعانات وإلا سينتهي الأمر بالنسبة لها..
وصفق الجميع وهلل لمرور قوافل "مسافة السكة" وغيرها من المسميات..فأجمل ما فينا نحن العرب أننا "نزيط في الزيطة"
وتنحصر كل أمانينا في الشيء الذي بين أيدينا هذا لو اعتبرناه هو المكسب الحقيقي..لكننا نخشى عاقبة أن ننظر ولو نلقي نظرة لما سقط من بين أيدينا مخافة التورط عند التقاطه..!!
سأبدأ هنا من قبل الهدنة، من يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول يوم "طوفان الأقصى" ذاك اليوم الذي غيّر مسار العالم بل غيّر تاريخ بأكمله، وفي اليوم الثاني مباشرةً بدأ العدوان الإسرائيلي بالهجوم الوحشي على المدنيين بقطاع غزة ردًا على ما فعلته المقاومة بهم بهجومها غير المتوقع، وزعزعة الكيان الذي كان يُحكى عنه كما الأساطير أنه القوة التي لا تقهر..حتى جاء يومهم الموعود وبطلت كل تلك الحكايات والأساطير الوهمية، ووضعت النقاط على الحروف..وقرأنا الحكاية من الألف إلى طوفان الأقصى كما كان يجب منذ أزمنة ولَّت.
وهنا جاء يوم ضرب مستشفى المعمداني في السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول2023 الذي تحولت ساحتها في لمح البصر لمجزرة أدمية بشعة، عبارة عن أشلاء محروقة تطفو على بحر من الدماء، بعد استهدفها جوًا بغارة إسرائيلية عنيفة راح ضحيتها نساء وأطفال كانوا من المصابين يجلسون جنبًا بجنب مع المدنيين النازحين بالمستشفى ..كل أولئك يا تُرى ماذا كانت أحلامهم ومطالبهم من الحياة؟!!
ومن نفس المشهد الذي انتهى هناك.. بدأ هنا في مستشفى الشفاء الطبي يوم 15نوفمبر 2023..مسلسل سخيف تشنه قوى الاحتلال تُنهي هناك مشاهد المجازر ..لتلحق بآخر هنا، تلك المستشفى التي حُوصرت من كل اتجاه بالدبابات والقناصة أرضًا، والطائرات والصواريخ جوًا، وتعرضت للقصف من كل اتجاه، والذي أسفر عن استشهاد أكثر من أربعين شخصًا منهم النازحين والمصابين والمرضى بوحدة العناية المكثفة..وبينهم أيضًا أطفال خدّج ماتوا جراء انقطاع الأكسجين عنهم بسبب قصف محطة توليد الكهرباء ونفاد الوقود في المجمع، وزد على ذلك قطع جميع شبكات الاتصالات الهاتفية لتعجيزهم نهائيًا بالداخل مما يجبرهم ويضطرهم إلى التسليم ومغادرة المستشفى -إدعاءً وكذبًا- منهم أن حماس تستخدم جميع المستشفيات بالقطاع لأغراض عسكرية..وتؤكد وجود أنفاق تحت كل مستشغى هناك لخدمة حركة حماس..وسرعان ما فندت تلك الرواية من قبل حماس والعاملين بالمستشفى، بل ومن قبل الإعلام الغربي التابع لهم ايضًا، أكد أن كل هذا التشنيع ما هو إلا هراء وادعاءات كاذبة من قبل الجيش الإسرائيلي.. بعدما صنعت الكذبة وصدقتها وتحاول أن تقنع العالم بها ..
وجاء الدور على قصف مستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا شمال غزة، الذي هددتهم قوات الاحتلال باقتحام المستشقى بدعوى وجود نشاطات عسكرية بها، وهو نفس السيناريو المعمول به في مستشفى الشفاء الطبي منذ عدة أيام..ولم يعطوهم فرصة الاختيار، وأجبروهم على إخلاء المستشفى..وتم نقل نحو 100مريض وجريح ين الحياة والموت إلى مستشفى ناصر بخان يونس بمساعدة الصليب الأحمر، والباقي 630جريح كانوا في انتظار أن يكونوا بتعداد الموتى، أو أن يرأف بحالهم أحد وينتقلوا إلى مستشفى آخر، أو أي مكان آمن، وكانوا في انتظار سيارات الإسعاف المنقذ الوحيد ..فسبقتهم قاذفات الاحتلال وقصفت بسيارات الإسعاف، وبساحات المستشفى حتى استهدفت منهم 12شخصاً..وفي هذا اليوم شن الاحتلال غارات كانت من أقوى الغارات على قطاع غزة حتى وصل عدد الشهداء إلى 120 في هذا اليوم بعد قصف طيران متواصل على المنازل والمستشفيات..
هنا غزة..
هنا قلب الحدث..
هنا غزة ..قبل هدنة الموت..!!
هنا مثلث الرعب... مقاومة، جيش عدو، وبينهم شعب أعزل..
هنا الاستشهاد الجماعي
هنا الأبرياء
هنا الإبادة الجماعية
هنا قُصفت أغصان الزيتون
هنا المعركة الحقيقية
إما الاستقلال التام أو الموت الزؤام
هنا الطفولة البريئة تلطخت بالدماء..
هنا شهداء الطفولة
هنا كل يوسف "شعره كرلي وأبيضاني وحلو" هنا كل طفل مات في لحظة غدر..
هنا الأحلام السجية كانت أبسط ما يكون..ليست سوى مكان أمن يختبئ فيه يوسف بعيدًا عن إخوته كي يسرع هو الأول فيصل لمكانه أمام الحائط ويلمسها قبل أن يمسكه أو يلحق به أحد من إخوته ..فلحقه صاروخ ضرب البيت في لحظة وانقلب المكان رأسًا على عقب...
هنا (6000) طفل شهيد أو ما يزيد قبل هدنة الموت كان لهم حق مشروع في الحياة، ستة آلاف طفل أو ما يزيد سقطوا شهداء، كانت لهم نفس الأمنيات البسيطة التي يطلبها أبناؤنا، كان لهم حقٌ في اللعب والضحكات بنفس طريقة أبنائنا.. حق في التعليم، حق في المدارس التي أبيدت بما فيها، حقٌ في اللبس الجديد الذي خرج من بين الركام ولم يهنأ به صاحبه بعد..حق في الألعاب التي وُجدت تحت الأنقاض بقبضة رفات الأطفال..!!
وهنا أم يوسف.. التي هزت قلوبنا برجفة قلبها التي سمعها العالم من كل حدب وصوب، بكل حرف لفظت به "وينه حبيبي"..
هنا لحظة أقسى ما يكون تمر على قلب أي أم ..
هنا الموت بأبشع صوره.. مر على كل أم بغزة.. حين تبدأ الواحدة منهن رحلة البحث عن أولادها بعد انتهاء القصف بين الحطام تارة، وبين المصابين تارة، فلم تجد في نهاية المطاف إلا سبيلا واحدًا...ذاك الطريق الذي يأبى قلبها السير فيه، ويُكذب عقلها تصديقه..طريق مشيناه مع أم يوسف خطوة خطوة.. فكأنما كانت تمشي على شوك..تقدم رجل بكل قوتها وتؤخر أخرى عسى أن يناديها مناد من ورائها ويقول لها: ها قد وجدنا يوسف ابنك مع المصابين، أو ربما..ربما كانت متخيلة أن تكون كل هذه الأحداث التي تمر بها في ذاك الوقت ما هي إلا "كابوس" وستنتهي أضغاثه بعد لحظات..فتمر اللحظة وراء اللحظة والحجرة وراء الأخرى إلى أن وصلت للمنتهى..ذاك المكان الذي تفر منه منذ بداية رحلة البحث عن حبيبها وفلذة كبدها ..فتفيق على جثتٍ هامدة.. هشمتها أيادٍ سوداء
وهنا..لا تجد الأمهات إلا خيارين لا ثالث لهما؛ إم أن يعثرن على جثث أولادهن فيحمدن الله، أو إما يجدن أولادهن أشلاء.. مفحمة وإن وجدت.. وأيضًا يحمدن الله..!!
وهنا أبو يوسف.. الذي وقفنا أمام صموده في تلك اللحظة متعجبين لموقفه الذي لا يُحسد عليه، لقد صحح معاني كثيرة بداخلنا بقوة إيمانه وثباته عند فجيعة القدر..فلا يقل موقفه عن موقف ذاك الأب الذي كظم حزنه وألمه لحظة استشهاد أحد أبنائه، كانت كلماته بمثابة رسالة لكل فلسطيني دمه حُر يمر بتلك الفجيعة "ما تعيطش يا زلمة، إنت زلمة، إحنا مشاريع شهداء"
_ربح البيع يا أبا الشهيد.. لقد ربح البيع _!!
وهنا لا تنسوا ريم وطارق "روح الروح" اللذيْن حملهما جدهما..وهو في حالة شرود وعدم تصديق لما حدث لهما..
احفروا تلك الصور والكلمات على جدران قلوبكم..واحفظوها عن ظهر قلب ورسخوها بذاكرة عقولكم لا على ذاكرة هواتفكم وحسب..!!
بدي شعرة منه..،
خليه في حضني شوي أوم ياما ارضع ..،
كان عايش والله..،
أولادي ثلاثة يا عالم، دوروا معي بلكي بلاقيلي واحد عايش..
كنت ناوي أعمل لها عيد ميلاد..
تعالوا لي بالمنام والله بشتقلكم..
هاي أمي بعرفها من شعرها..
قولي إنك عايشة يا ما..
ماما ماتت يا عمو..
بلغوا رسول الله أن أمتك خذلتنا..
ما بدي أحط بنتي بالثلاجة
لمين بدي أحكي يا ما..
يا ريتني ضليت معك..
ما سردته هنا _بعض من كل _ وما خفي من بعد هدنة الموت كان أعظم، هذا نموذج مصغر لمأساة حقيقية يعيشها شعب بأكمله لا أظن أنها مجرد أحداث عابرة ستمر مرورًا وقتيًا وبعدها ننسى ..
لا..لأن غزة قطعًا وبلا أدنى شك غيرت فينا ما لم نكن نحسبه أنه كان سيتغير يومًا ما..يكفي أنها علمت عقد جيل كامل مشقة وبسالة الدفاع عن الوطن لآخر قطرة نفس .. حتى لو استدعى الأمر التضحية بالأب والأم والأولاد وأغلى ما يملك الإنسان ..وكان الشاهد على ذلك جميع المراسلين والصحفيين وجميع العاملين بوسائل الإعلام الذين وقفوا وما زالوا يدافعون ببسالة وشجاعة وهم بصدد الجبهة الأولى في ساحة القتال، خسروا كثيرًا من أفراد عائلتهم، وكان أبرزهم وائل الدحدوح مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة، واستشهاد الصحفي ساري منصور واستهداف منزله بمخيم البريج..وغيرهم الكثير، وبحسب لجنة حماية الصحفيين قُتل 53 صحفيًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني منهم 46 فلسطينيًاو3 لبنانيين، كما أصيب أيضًا 11 صحفيًا، وفقدان ثلاثة واحتجاز 18 آخرين، بالإضافة إلى أربعة صحفيين إسرائليين.
لقد تعلمنا منك يا غزة.. أنه مهما كانت قوة العدو غاشمة فمن السهل مقارعتها والتصدي لها فقط بالإيمان وبالقوة والإرادة الحرة، تعلمنا منك يا غزة.. أن الطفل الذي كان يومًا يمسك حجرًا صغيرًا ليرميه على عدوه وإن لم يصبه.. سيأتي اليوم الذي يحمل فيه السلاح ويقف لعدوه وجهًا لوجه.
تعلمنا منك يا غزة أن.. المزايدة على حرية الوطن ولو بقطعة منه ما هي إلا نذالة وخسة، والإبادة الجماعية والاستشهاد على يد العدو أشرف وأطهر من التفريط في شبر واحد من أرض الوطن، درسنا في التاريخ أن الهدنة إيقاف مؤقت للحرب بين كلا الطرفين وبعدها تهدا الأوضاع..فتعلمنا من صمود غزة أن الهدنة عندهم استعداد للحرب الحقيقية والإبادات الجماعية..
تعودت أن أقتبس في آخر كل مقال جزءًا من مقال أو يومية لكاتب آخر..لكني هنا لم أكن بحاجة لهذا الاقتباس..حقيقةً لم
أشعر أني بحاجة إلا لشيء واحد في تلك الأيام..هو أنني أريد ألا أشعر..!!
#هنا_غزة_2
#شيماء_عبد_المقصود