اللعنة…/ قصة قصيرة
ليلى المرّاني / العراق
قبل أيام التقيت بصديقي واثق بعد انقطاع طويل، أخذنا الحديث إلى تلك الأيام التي كنا نجتمع فيها مرّةً في الأسبوع، خمسة أصدقاء لم نفترق إلاّ حين شتّتنا الحروب وما تلاها من ظروف صعبة، فهاجر من هاجر، وانزوى ببيته من لم يعد يجد طعمًا للحياة.
— هل تعلم بأن ماهر أصيب بالعمى؟
— ماهر؟ كيف؟ هو لا يزال شابّا.
— لا أعلم، ولكنك تعرف بأنه هاجر إلى إحدى الدول الأورپية، أختي تعيش في المدينة التي فيها ماهر، ومنها سمعت بالخبر.
وماهر له حكاية أغرب من الخيال، حاولت نسيانها، ولكنها قفزت الآن شاخصةً من دهاليز ذاكرتي بكلّ تفاصيلها، حينها كرهت ماهر وتجنّبته. حكى لنا تلك القصة البشعة ونحن في المقهى الذي نلتقي فيه، كان يحكيها بشيء من الانتشاء والسخرية.. وربما الألم!
تحضرني الآن صورته، شابّ طويل القامة، لا يعيبه شيء سوى رمشة سريعة في عينيه بين الفينة والفينة، وقيل بأنه ورثها عن أبيه.
ساقوه إلى الحرب بعد تخرّجه من كليّة الهندسة، وكذا آلاف الشباب الآخرين. يتكلّم بسرعة بحيث يبتلع نصف كلماته، ولكنه هذه المرّة أخذ يتحدّث ببطء وهو يوزّع نظراته علينا وقد ازدادت عيناه سرعةً في الرمش.
— هل أحكي لكم قصةً أغرب من الخيال حدثت معي؟
اشرأبّت الأعناق، وصاح أحدهم بجذل: أحبّ القصص الغريبة، هيّا يا ماهر.
اعتدل بجلسته، وضع ساقًا على ساق وسحب نفسًا عميقًا، نافخًا أوداجه. نظرتُ إليه مستغربًا ومتسائلاً، " ماذا في جعبته، ولماذا هذا المزيج من الاعتداد والسخرية وشيء من الألم الذي اكتسح قسمات وجهه.
— حين هروبنا من المعركة في تلك الحرب اللعينة…
تنحنح وسحب نفَسًا عميقًا، وبصوت جعله يبدو مؤثّرا، واصل حديثه.
— كانت طائرات العدو تلاحقنا، أشعلت السماء والأرض بقذائفها، كنا نركض بعشوائية، لا نعرف الاتجاه وإلى أين سيقودنا الطريق، المهم أن نهرب من ذلك الجحيم، نرى مَن يسقطون جرّاء القصف أو من الجوع والعطش والتعب.. جثث تمشي من دون رؤوس، جثث كثيرة على جانبَي الطريق..
صمت فجأةً، ابتلع ريقه ودمعت عيناه.. وسادنا صمت ثقيل. استعجله أحدنا، وكان شديد التأثّر، فقد فقدَ أخاه في تلك الحرب غير المتكافئة.
— لا أدري كم يومًا سرت، بل زحفت في طريق لا أعرف أين سيأخذني، لم أكن أعرف الاتجاه الذي أسير فيه… أرى الآخرين يركضون، فأركض... تتقطّع أنفاسي، أجثو على الأرض، فتدهسني أقدام الفارّين من جحيم القصف… حين أرى أجسامًا بدون رؤوس، أتحسس رأسي! بلغ العطش مدىً لم أعد أستطيع تحمّله… لو كنت أستطيع التبوّل، لشربتُ بولي… الجوع والعطش ولهيب الصيف الحارق، كلّها توحّدت؛ فأفقدتني قدرتي على مواصلة الهرب.. تحجّرت ساقاي؛ فخلعت ( بسطالي ) الثقيل وأخذت أزحف مثل حشرةٍ نصف ميّتة.
توقّف عن الحديث، أخذ نفسًا عميقا من سيكارته ورشفةً من قهوته.. وزّع نظراته التي شابها الحزن على أرجاء المقهى وكأنه يبحث عن شيء فقده.
— وأنا ألهث من العطش والتعب، لاح لي من بعيد شبح رجل، ركضت نحوه بكلّ ما تبقّى لي من طاقة، رجلٌ مسنّ يرتدي زيّ أهل الجنوب؛ فأدركت بأنني دخلت أرض الوطن. سقطت أرضًا فاقد الوعي قرب الرجل، وكلّ ما نطقت به،" ماء.. ماء "
ساعدني كي أستقيم وناولني قربة الماء التي يحملها،" لا تشرب كثيراً، فقط بلّل شفتيك أولاً كي لا تُصاب بالعمى. "
كانت يداي ترتجفان وأنا غير مصدّق بأنني سأشرب ماءً، صببت قليلاً منه على رأسي ووجهي، سألت الرجل، " أين نحن؟ "
" في مدينة ( ن ) الجنوبية "
سكت ثانيةً، وغرق في عالمه المجهول.. طال صمته، فصاح أحدنا: أكمل يا ماهر، ماذا حدث بعد ذلك؟
— هل أنتم على استعداد لسماع الجزء الأكثر غرابةً من القصة؟
— نعم.. نعم
أجبنا بصوتٍ واحد
— حسناً، نظرت إلى الرجل بحقدٍ مفاجىء، وكأنني أرى أمامي أحد قادتنا العسكريين الذين فرّوا من المعركة بسياراتهم العسكريّة دون أن ينذرونا.. تركونا لقدرنا نركض كالفئران مذعورين تحت قصف الطائرات. صحت بالرجل بكلّ ما بقي لديّ من قوّة، " إخلع نعليك " ، " لماذا؟ "، " أريدك أن تأكلهما "، نظر إليّ غير مصدّق، وأظنّه اعتقد بأنني أمزح معه، صرخت بكلّ قوّتي ورذاذ الماء ممتزجًا بلعابي يتطاير بوجهه، " كُلْ نعليك وإلاّ قتلتك. "، وأشهرت بندقيتي بوجهه.. ارتعب، ولكنه بقي متردّدا غير مستوعب ما أقول. صوّبت فوّهة البندقية إلى رأسه وعيناي تقدحان حقدًا وشراسة..
فجأةً سكت ماهر، خرج من المقهى، ثم عاد بعد أن تنفّس بعمق، وبصق عدّة مرّات.
— خاف الرجل..
وهنا أصبح صوته غليظًا، مشوّهًا كصوت غراب يبكي!
— نعم، ارتعب الرجل، تناول أحد نعليه وقضم منه قطعةً صغيرة، حاول أن يبتلعها؛ فلم يستطع، ولكنه ارتجف حين سمع صوت البندقية وأنا أشدّ على زنادها، " اقتلني يا ولدي.. اقتلني "، " ليس قبل أن تأكل نعليك "
ابتلع القطعة، ثم قطعة أخرى، وأخرى.. واستفرغ ما في جوفه… حين انتهى فجّرت رأسه بكلّ ما في بندقيّتي من رصاص.. مسحت وجهي بدمه، وجثوت أمام جسده.. وبكيت.