ديون كلام
لم يكن يملك شيئًا يُكتب باسمه.
لا بيت، لا سيارة، لا تجارة. لكنه كان ثريًا بكلامه.
كلامه وحده كان يُطعم الجائع، ويُطمئن الخائف،
ويُبهج المهموم...
أو هكذا كانوا يظنون.
أنا عند كلمتي...
اطمئن، أنا موجود...
لو ما وقفت معك، مين يوقف معك؟
عبارات أطلقها كأنها صدقة يومية،
لا يحسبها ولا يعيد النظر فيها.
ذات يوم جاءه أبو نواف، وقد ضاقت به الدنيا بعد قضية خُدع فيها. قال له:
– بس بدي اياك تشهد معي... وجودك يكفيني.
فرد بثقة:
– حاضر، هذا أقل من الواجب.
لكن في يوم المحكمة، لم يأتِ.
كان مشغولاً بتسديد وعدٍ آخر نسيه.
أم حسام، الأرملة التي اعتبرته مثل ابنها، قالت له يومًا:
– البنات لسه صغار ما بقدروا يشتغلوا.
بس علينا إيجار آخر الشهر...
وهو قال:
– ولو!
والله ما بتخلوا، أنا بدبّرها.
لم يدبر اي شيء.
وخرجت أم حسام من البيت بعد إنذار ثالث.
تراكمت الوعود في صدره كما تتراكم الديون في دفتر بائعٍ طيب، لا يعرف كيف يطلب سدادها.
ذات مساء، وبينما يجلس على عتبة داره يدخن، اقترب منه رجل لم يعرفه، ملامحه عادية، صوته هادئ، عيناه ثابتتان.
قال:
– سلام عليكم.
– وعليكم السلام.
– تعرفني؟
– لا والله.
– أنا من اللي أخذوا منك وعد.
سكت قليلًا ثم تابع:
– قلت لي: "أنا معك للآخر"... وأنا وصلت الآخر.
تجمد الدخان بين أصابعه، وسرت قشعريرة خفيفة في عنقه.
تذكّر جملته تلك... قالها كثيرًا، لكن لا يذكر لمن تحديدًا.
– آسف... يمكن نسيت؟
– ما يهم. بس جيت أذكّرك... الديون أنواع. في دين مال، وفي دين معروف...
بس أقسى دين، دين الكلام.
استدار الرجل ومشى بهدوء، تاركًا الباب مفتوحًا والهواء مثقلًا بالعتاب.
دخل بيته، وأغلق الباب، ثم جلس وأخرج ورقة.
كتب في أعلاها:
"دفتر ديون – القسم: كلام"
وابتدأ يعد:
أبو نواف...
أم حسام...
الولد اللي وعدته بدراجة...
الجار اللي طلب سيارة الإسعاف...
الزوجة اللي قالت له: بتحبني؟ فأجاب وهو يحدّق في هاتفه: أكيد!...
ومع كل اسم، كتب أمامه كلمة: ما وفيت
سالم غنيم
من مجموعتي القصصية
دفتر ديون