إضاءات نقدية بقلم الأستاذ جمال عتو
نلتقي مجددا هذا اليوم مع فقرة " إضاءات نقدية " بمنتدى نبض القلم للشعر والأدب متناولين قصة قصيرة موسومة ب " بين مد وجزر " الأديبة التونسية لمياء بولعرس .
النص القصصي القصير يحكي عن شخص وحيد إعتاد زيارة البحر لينفس عن نفسه التي امتلأت خواء وفراغا لكنه كلما وطأت قدماه الشاطئ انقلب خواؤه امتلاء عابرا ، أخذ يركض بعدما غمس يده في زبد البحر وترحم على من ألهمه حبه ، احس بشعور عاطفي غامض تساءلت الكاتبة هل هو هوى مقدر أم غريزة ذكورية عابرة فقد امتثلت له بعيدا ، لم تكن سوى امرأة أوتيت جمالا بهيا ، اقترب منها صارت نبضات قلبه في خفقان ظاهر وهو الأبي الذي لا مجال للدخيلات الولوج إلى سلطنته ، تراءت له عن قرب أن تلك المرأة عبارة عن حورية البحر ، لم يتفرس وجهها جيدا لكنه " استوعب ملامحه الراسخة في رغبته " ، كانت رغبة دون حب ، تمنى لو يقترب منها أكثر مستمتعا بجمالها وهو الذي لم يعهد هذا الامتلاء قبل مع سليلات أنوثتها ، أراد عيش حاضره متنكرا لماضيه ، جرى ، ركض ، اقترب منها ، كاد أن يلامسها،"كسته في وهلة بشعرها ، مسحت به على محياه " لتغدو بعد ذلك فراشة ، تستبين الحقيقة أن ذلك اختزال لتعويذة الوجود
" حورية بحاره المنشودة ... فراشة أحلامه السريرية ، حلقت حول كتفيه ، وقعت عليهما ، اختلطت أنفاسه بعبقها ، ما إن يشارف على ملامستها حتى تحط بعيدا عنه " .
باح لها بعد جري وركض بالحب لكنها ارتأته حبا محنطا بالغريزة .
أصرت على البقاء على حالها فراشة حطت على حبات الرمل ولم ترد أن تتحول إلى امرأة من جديد لكي لا تمتثل لرغبته وغريزته ، بعد أن حلقت بعيدا جدا استرجعت صورة الأنثى تاركة " طيف الحورية والفراشة لانطلاقة كل امرأة حرة ..." .
اشتد ركضه دون جدوى غير مدرك أهو الحب دافعه نحوها أم الرغبة المحنطة وبقي بين مد وجزر " يلازمه طيفها ... يطرده عنه ثم يطارده " .
نص الأديبة لمياء بولعرس اشتغل على مفهوم " الفنطازيا " وهو استحضار شخصيات في الواقع من عدم ، والتعايش معها في لحظات مختلسة من رتابة اللحظة ، ثم ماتلبث هذه الشخصيات أن تختفي ، لكن هذه التمظهرات ما هي إلا انعكاس لما يخفيه المستحضر من مشاعر دفينة تناساها ولم ينساها أبدا ، فبطل قصتنا على مايبدو مغرما بزيارة البحر ، ومن أول وهلة وهو يداعب زبده كان يستزيد من " صورتها "،
من هي ؟ أهي حبيبته ؟ ، تعبر الكاتبة عن هذا الإحساس ب
" استفاضت من جموحه لها ، حين أراد التخلص من تقاسيمها المرسومة في دخيلته ، لم ينجح أبدا في محو خباياها فيه " .
سيمتثل هذا الإحساس الدفين في امرأة عبارة عن حورية البحر أوتيت جمالا مثيرا ، يركض نحوها ناشدا التقرب منها حتى يستمتع بلقياها حائرا بين الشعور بالغريزة المحنطة والحب الصادق ، سينجح البطل في ذلك بعدها ولو لم يتفرس وجهها بين مد البحر وجزره ، فهو لم يعهد هذا الامتلاء قبل مع سليلات أنوثتها ، كسته في وهلة بشعرها ، مسحت على محياه ، لكنها في طفرة مفاجئة قبل أن يهم بها تتحول الى فراشة تطير ثم تحط ، واصل ركضه لأنه متشبت بالظفر بها ، حورية بحاره المنشودة أو فراشة أحلامه السريرية ، لقد وجد ضالته لتكون من نصيبه وقد تنكر لماضيه العاطفي ، الفراشة الحورية رغم بوحه بحبه لها تشربته وارتأته حبا محنطا بالغريزة ، لم تتحول الفراشة بقربه إلى امرأة لكي لا تمتثل لرغبته ، تطير الفراشة من جديد في المعالي بعيدا ، وتسترجع صورة الأنثى من جديد تاركة طيف الحورية والفراشة لانطلاقة كل امرأة حرة ، يركض بعدها وهو في حيرة قاتلة بين إداركه أهو الحب دافعه نحوها أم الرغبة المحنطة وبقي يقاسم البحر مده وجزره يلازمه طيفها ، يطرده عنه ثم يطارده .
امامنا نص مركب وأقرب إلى التعقيد لكنه يحيلنا إلى ما يعيشه المحب الولهان من تناقضات بين المتخيل والواقع ، فبطل القصة على مايبدو يصبو الى حب يملأ فراغه بعد فقدان أو غياب حبيبته لتمتثل له حورية في البحر ، يركض نحوها وما أن يهم بالظفر بها حتى تتحول الى فراشة تطير وتحط ، وما إن تبتعد عنه محلقة بعيدا تتحول الى أنثى ، البطل مغرم بالبحر والبحر شاعر كبير ألهمه حبا في شكل حورية ، والفراشة وصف لأحلامه السريرية ، فهل أحلام البطل تتحول إلى تمثل الحورية ، ثم أن هذه الأنثى المتمثلة أمامه عكست حب امرأة حرة لا تؤمن بالغريزة المحنطة والنزوة العابرة .
نصنا لهذا اليوم اشتغل على مفهوم الحب والوجدان والفقد ومحاولة التخلص من الوحدة والظفر بما يختلج في دواخل الإنسان ، نجحت فيه كاتبتنا في وصف المتخيل في أدق تفاصيله ، وهو نص لم ينج من عنصر التكثيف لكنه موصل للمعنى المراد .
عنوان القصة " بين مد وجزر " جيد للغاية لأنه استحضر مشتركا بين وضع البحر وحيرة البطل .
القصة القصيرة هنا استجابت لمحاورها من شخوص وبداية ونهاية وعقدة وانفراج .
أسلوب الكاتبة جنح الى المتانة اللغوية السليمة في سهلها الممتنع وهو بهذا تشد القارئ إلى النهاية المفتوحة على كل القراءات .
ويبقى نص اليوم مهما مادام اشتغل على المفهوم العاطفي الذي يلازم كل إنسان .
نكتفي بهذا القدر ، وإلى نص آخر في الأسبوع القادم نستودعكم الله .
______________________""""""""_____________________
قصة قصيرة
بين مدّ وجزر
كان يستبطن البحر في خلجاته ،يتموّج معه في خواء عجيب ،كلّما وطأت قدماه الشّاطئ اندسّ فيه ذلك الخواء وانقلب امتلاء عابرا كعبوره اليوميّ لبحره الماثل فيه،تقدّم نحو الزّبد استهواه لُجينه الناصّع،غمس يديه فيه ،ورفعهما إلى السّماء يترحّم على من ألهمه التوغّل في أديم ملحه الساّحر .استكان مع مدّه وجزره فأخذ يركض على وقع جوقته سليلة ارتواءاته من الوجود ..ركض ..لهث وهو يستزيد من صورتها ..رسخت فيه ،استفاضت من جموحه لها ، حين أراد التخلّص من تقاسيمها المرسومة في دخيلته ،لم ينجح أبدا في محو خباياها فيه ،لم يرتض لنفسه هذا الشّعور الغريب ، انبثق فيه مع توليفة لازمت صورتها ، أهي الغريزة الذكوريّة اعتملت فيه ،أم هواها المقدّر له بعد نيف من العمر ...
جرى ،ركض ،لهث ،وفي كل خطو مارق على ماء البحر ،ارتجّ كيانه لها وهو يلاقيها على الطرّف الآخر من امتداد الشّاطئ الشّرقي، نقرت نبضاته أعلى سترته فتراءى صدره مكشوفا ،يهتزّ مع اقتراب طيفها منه ، ماالذّي يقع له في سلطنته الأبيّة على الدّخيلات عليها؟! ،أرْجع ما يراوده من تجلّيات لصورتها إلى غريزة رجل ارتطم جدار ذكورته بجمالها ..لم يَرُم ماذهبت له خباياه الدّفينة النّاطقة بالعشق...
تهافت في ركضه نحوها ،فرك عيناه ، حوريّة استوت مع الموج المعتقّ بشعرها ، لم يتفرّس وجهها بين مدّ وجزر ،ولكنّه استوعب ملامحه الرّاسخة في رغبته ..نعم رغبة دون حبّ ، ارتجّت لها تفاصيله حين يحويها في سريرته ، يخبو معها كلّ مخيال لبنات جنسها ..
أيعقل أن يقع في حبّها بعد ملاقاته معشرا من النّساء ،فيهنّ الأشدّ فتنة ومكرا في غواية الرّجال...استولى عليه الماء الدفّاق يقتاده نحو حوريّته ..هو يقترب والطّيف يعلو فيسمو ، تطايرت له نظراته لهفة ،اه لو لمس شعرها المنساب على كتفيها لاكتنز ألف جاه وجاه من أساطير الأوّلين ليتحوّل ماء أجاجا يكسوها ،ملحه يغزوها ، يتمايل به،يطيح به في نزوة أو رغبة..أو ...حبّ!! لم يعهد هذا الامتلاء قبل مع سليلات أنوثتها ..تنكّر لماضيه ومحقه في نظرة من لواحظها ..اه لو أملى شفتيه منها ، لتماهى الحاضر مع الأمس و وأصبح الغد معه رهين لقاء لاحق بها ..
جرى ركض على الشاطئ وهو يقترب خطوات من حوريّته
كسته في وهلة بشعرها ،مسحت به على محيّاه ..ثمّ غدت فراشة اغرورقت ألوانها بقزح انبثق من هزّات صدره ، قفز لها فانتفض لجناحيها بجسده الملتاع بنار أنوثتها ...أهو الحبّ غزاه في تماهٍ أمثوليّ أم هو جموحه للارتواء من أنوثتها ، سحرها ...هي تعويذة الوجود ..حوريّة بحاره المنشودة... فراشة أحلامه السّريريّة ، حلّقت حول كتفيه ، وقعت عليهما ، اختلطت أنفاسه بعبقها ، ما إن يشارف على ملامستها حتّى تحطّ بعيدا عنه ...
جرى ،ركض، لهث ،باح لها بهيكل من الحبّ خرافي في تباريحه ،ولكنّه محنّط بالغريزة ، هكذا ارتأته ...تشرّبته...
تهاوت على حباّت الرّمل ،لم تُرد أن تتحوّل إلى قالبها الطّبيعي ..امرأة ..إن اكتسبت إنسانيّنتها من جديد لامتثلت لرغبته وغريزته المكفهرّة بها ، والحبّ حُنِّط في تلك الذّكورية المرتجفة تحت وقع أنثويّ فاتن ...
طارت الفراشة بعيدا وحلّقت في المعالي فوق هامته ، وهي بين تحليق ووقوع إلى أن استرجعت صورة الأنثى فيها بعيدا ..بعيدا...عنه، تركت طيف الحوريّة والفراشة لانطلاقة كلّ امرأة حرّة ...
لمحها واشتّد ركضه نحوها وهو لا يدرك أهو الحبّ دافعه نحوها أم الرّغبة المُحنَّطة ...وبقي بين مدّ وجزر ...وصل وقطع...يلازمه طيفها ...يطرده عنه ثمّ يطارده ...
لمياء بولعراس