التصريح والأفعى ( قصة قصيرة )
قفز من فوق السور ، نزل إلى ساحة خلفية لبيت بعيد عن الحارات المتراصة، اختبأ بين الأشجار ، لم يعد يسمع أصوات الخطوات الراكضة خلفه ، أصوات "البساطير" التي تحفر الأرض بأنياب التوجس الناري .
بعد مرور ساعة هدأت الأرض المرتعبة، لم تعد ترتعش تحت الأقدام ، عتمة السماء صافية ، لا يشوبها إلا مساحة من الخيال المخيف يوقظ كل قطرة دم في خلاياه، قلبه المرتعش يحمل الخوف المليء بوجوه العمال الذين سبقوه ، والحكايات المخيفة التي تشابكت وتعانقت مع الليالي التي تختم ظلامها بتفتيش يغتصب راحتهم وتعبهم ، حيث يبعثرونهم بين الطرقات والشوارع كالكلاب الهاربة ، وغالباً ما يصلون الى أبواب السجون وقاعات المحاكم ، وتبدأ رحلة أخرى من المعاناة .
تسلل ، يكاد يسمع دقات قلبه ، قلبه جرس مجنون يرفض الاختناق ، صوته يخترق اللحم ويخرج قطعاً من اللهاث ، وقف ، تنفس بعمق ، أخرج سيلاً من الحذر ، نزف حيرة ، شكراً للأشجار التي حضنته وأخفته ، أول مرة يشعر بحنين جارف إلى الشجر المغروس حول بيتهم ، كان يستخف بوالدته وهي تزرع وتسقي وتقلم الشجر، ويضحك عليها عندما يراها فرحة وهي تقطف الثمار ، ويعايرها بهذا الفرح الساذج ، وحتى يغيظها يدق دبوسا في مشاعرها حين يذكرها أن أرضهم قد صودرت وأشجارهم قطعت وتحولت إلى مساكن فخمة للمستوطنين ، مع أنها ما زالت تحلم بأنها صاحبة الأرض ، ثم يحمل الثمرة ويرميها في الفضاء ، كأن الفضاء مسرح للإحتجاج على مهزلة القدر .
الى أين يذهب ؟.. لا يعرف ...؟!
الليل والهدوء والرعب حالات يعيشها الآن، لم تعد القصص التي حاول بعض العمال الذين لا يملكون تصاريح العمل رميها في حضنه ، مدرسة لتطوير رياضة الهروب والتخفي والقفز ، فعندما سمعهم يتكلمون حول خفة الجسد والركض والاختباء وتمويه الشرطة أو الجيش ، شعر أنه يعيش داخل فيلم أجنبي ، لكن الآن أصبح جزءاً من الإخراج والبطولة والديكور الحاد المصقول بالخوف والجبن والاختباء ، والقدرة على ممارسة التلون.
عليه أن يجد أي مكان يختفي فيه حتى الصباح ، لا يريد أن يعتقلوه ، لا يتحمل فكرة الاعتقال ، يكفي أن السجن أكل من عمره خمس سنوات .
جلس تحت شجرة متوارية بين أشجار أعلى منها وأكثر كثافة وأغصاناً ، أغراضه الشخصية تركها هناك ، في الغرفة التي تحولت إلى ساحة حرب ، لولا الجارة الطيبة التي نبهته بسرعة عند دخول الشرطة للحارة ، لسقط بين أيديهم ضحية تنضح بالذل والخوف والركل ، كما سقط زميله الساكن معه في الغرفة بعد أن القوا القبض عليه وهو داخل إلى الحارة .!
لن يرجع إلى غرفته، من المؤكد أن الشرطة تراقب المكان ، سيبقى مختبئاً بين الأشجار حتى الصباح ، تذكر شخصية طرزان أبن الغابات الذي كان يحبه ويحاول تقليده عندما كان صغيراً ، فضحك ، هاهو يتحول الى طرزان من نوع خاص يتنقل بين الأشجار ، ليس إعجاباً بالطبيعة إنما هروباً من مصيدة الشرطة .
جلس فوق غصن شجرة ، الهدوء حوله يزيد من خوفه ، انه الهدوء الذي يفرش حول ذعر أو مصيبة فيشل كل شيء .
تململ ، تعب ، الغصن تمايل تحته كأنه لم يعد يتحمله ، قرر أن ينزل و يلجأ الى جذع شجرة وينام بين طياتها و" اللي بقع من السما بتتلقى الأرض " ..!! هكذا اختصر قراره المسحوب من جيوب اليأس .
غداً سيحاول الوصول للمقاول الذي أتى به إلى هنا حتى يقبض ثمن الأيام التي عمل بها . سيرجع لبلدته ، لن يغامر مرة أخرى ، سيحكي لأمه التي لن ترضى بالمخاطرة ، حتى والده المتوفي لو عرف عن المطاردة ، التي قامت بها الشرطة وكيف استطاع النجاة بجلده ، لصرخ بوجهه طالباً منه البقاء قي بلدته ، ويلعن اللقمة التي تغمس بالخوف والموت .
في ساعات الظهيرة مر بعض التلاميذ العائدين إلى بيوتهم عبر طرق فرعية بين الحقول ، فاصطدموا بجثة شاب ملقاة تحت الشجرة ، أخذوا يصرخون ، سمع صراخهم السكان والفلاحون الذين كانوا في المكان ، وقاموا بتبليغ الشرطة التي جاءت بصورة مستعجلة ، قامت بتفتيش جثة الشاب فلم تجد أية بطاقة هوية أو أي شيء يدل على شخصيته ، سألوا المتواجدين ، إذا كانوا يعرفونه فأجابوا بـ "لا" ... غمز شرطي زميله وقال:
- قد يكون أحد العمال اللي طاردناهم الليلة ..!! ومر طيف ابتسامة على شفتيه ... شق ثوب السواد الذي يحيط بذهول الجميع .
في آخر نشرة الأخبار من "صوت اسرائيل" أعلن عن موت شاب من أحدى قرى نابلس بلدغة أفعى سامة ، عندما كان يتواجد بدون تصريح في قرية من قرى المثلث ...!!
شوقية عروق منصور